خطبة عن (الْبَغْيُ)
يونيو 16, 2025خطبة عن (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)
يونيو 18, 2025الخطبة الأولى (الْحَقُّ وَالْمِيزَانُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (17) الشورى،
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع مائدة القرآن الكريم، نتناول آية أو بعض آية من كتاب الله العزيز، فنتلوها، ونتدبر معانيها، ونتفهم مراميها، ونرتوي من نبعها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، ولقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (17) الشورى
فالكِتابُ هو القُرآنُ العَظيمُ، الذي نَزَل بالحَقِّ، واشتَمَل على الحَقِّ، وكُلُّه آياتٌ بَيِّناتٌ، وأدِلَّةٌ واضِحاتٌ، على جميعِ المطالِبِ الإلهيَّةِ، والعقائِدِ الدِّينيَّةِ، فكتاب الله الكريم، جاء بأحسَنِ المسائِلِ، وأوضَحِ الدَّلائِلِ، واللهُ أنزَلَه بالحَقِّ والعَدلَ؛ ليُقضَى بيْنَ النَّاسِ بالإنصافِ، قال تعالى 🙁لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد:25،
والقرآن الكريم جاء بالحق والميزان، ومهيمنا على كل ما سبقه من كتب, قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة (48).
والقرآن الكريم جاء بالحق والميزان، وشاملاً لجميع الأحكام, فما فرط الله فيه من شيء, قال الله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) الانعام:38، وأوضح الله فيه سبيل النجاة، قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (49): (50) المائدة،
والقرآن الكريم جاء بالحق والميزان: (والميزان) هو العدل، فالله تعالى أراد للعدل والميزان أن يقوم بين الناس في معاملاتهم، إذ لو أخذ أحد غير حقه، لاستمرأ الناس اغتصاب حقوق بعضهم، ولسادت الفوضى في المجتمع، ولرجحت كفة الباطل على الحق، والظلم على العدل، وهذا ما ينذر بهلاك المجتمع، وتآكل بنيانه، فالميزان هو العدل والانصاف والقسط الذي أنزله الله تعالى، ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما اشتبه عليهم من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر الله به، وما أخبرت به رسله،
والقرآن الكريم جاء بالحق والميزان: (فالكتاب والميزان) بهما يعرف الحق من الباطل، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]. فبين الله سبحانه وتعالى: أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الحجج والبراهين الساطعة، التي يوضح الله بها الحق، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب، الذي فيه البيان، والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان، وهو العدل الذي ينصف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق، وينشر به الهدى، ويعامل الناس على ضوئه بالحق والقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، فيه قوة وردع، وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة، وتؤثر فيه البينة، فهو الملزم بالحق، وهو القامع للباطل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم الله من ينصره ورسله، ولهذا كان قوام الدين: بكتاب يهدي، وسيف ينصر.
أيها المسلمون
إن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، وأعظم رحمة أنزلها على عباده: هي هذا القرآن العظيم، الذي بلغه للناس أفضل رسله محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن الكريم يهدي للتي هي أقوم، فهو نور ورحمة وهدى، وهو میزان قسط وعدل؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء:٩]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:٥٧]، فهنيئا لمن جعل الكتاب والسنة دليله وميزانه ومرجعه الذي يستضيء به في طريقه، وجعله ميزانه الذي يزن به الأقوال والأفعال، وسائر الأعمال، وتبا وخسارة لمن أعرض عن هذين النورين، والميزانين العدلين، واستبدل بهما موازين البشر الظالمة، الجاهلة القاصرة. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح – لا في الدنيا، ولا في الآخرة – إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم؛ فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم وزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير).
وحينما يفتقد الناس الميزان الحق الذي لا تتأرجح به الأهواء، ولا يغيب عنه شيء، فإن الناس يتخبطون، ويكونون في أمر مريج؛ لأنهم يرجعون في وزنهم للأشياء إلى أهوائهم، وإلى ما كان عليه آباؤهم الظالمون الجاهلون، وحينئذ تأتي هذه الموازين الجاهلية بالعجب في: تناقضها، وظلمها، وقصورها، وجهلها، وتقلبها، واعوجاجها ؛ يقول سید قطب رحمه الله تعالى: (فلا بد إذن من میزان ثابت ترجع إليه بالأعمال، ولا بد من قيم معترف بها، نقيس إليها المعروف والمنكر، فمن أين نستمد هذه القيم؟، ومن أين نأتي بهذا الميزان؟، من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم، وهي متقلبة لا تثبت على حال؟، إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه!، فلابد ابتداء من إقامة الميزان، ولابد أن يكون هذا الميزان ثابتا، لا يتأرجح مع الأهواء. هذا الميزان الثابت هو میزان الله)
والمتأمل اليوم في أحوال كثير من الناس والمجتمعات، يجد اضطرابا شديدا، وخللا بينا في موازينهم ومعاييرهم؛ إذ تغلب عليها موازين الجاهلية، التي تصدر عن الدنيا وما يدور في فلكها من النظريات المادية، التي لا تحسب للدين والدار الآخرة حسابا، وهذا الاضطراب والخلل في الموازين من الوضوح، بحيث لا يحتاج المسلم فيه إلى مزيد عناء في اكتشافه، وهذا الخلل قد يوجد على المستوى الفردي، كما يوجد على المستوى الجماعي والأممي، وقد يكون عن جهل أحيانا، وأحيانا عن خبث وهوی وعلم؛ ذلك لأن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازین وقيم وتصورات لمجتمعات المسلمين غير تلك التي يريدها الله، وتسعى هذه الجهود الخبيثة لإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله سبحانه، ولتوجيه الناس والحياة والأخلاق وجهة غير التي قررها الله؛ قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة:٥٠]، وقال سبحانه: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة:١٣٨].
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ): فيه بيان أن الإسلام دين العدل، فإذا كان لكل دين سمة، فسمة الإسلام العدل؛ فالعدل والعدالة في شريعته حقيقة واقعة، وفريضة واجبة، فرضها الله على الجميع دون استثناء، ففرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بها، قال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15]. وأمر الله بإقامته في كل الأمور، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) الرحمن: (9)، وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ) [النحل:90]. وفي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ عَرْضٍ، فِي حَقِّ مُؤْمِنٍ، أَوْ كَافِرٍ، أَوْ فَاسِقٍ، وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلاَّ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولاً لاَ يَفُكُّهُ مِنْهَا إِلاَّ عَدْلُهُ)، فمن جعل العدلَ أساسَ ملكِه، قويت شوكته، وعظمت دولته، وإن كان كافرا، ومن جعل أساس دولته الظلم، وتضييع الأمانة، وإهدار الحقوق، لم تبق دولته، وإن كان مسلم، قال ابن تيمية رحمه الله: “إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”.
والعدل في الاسلام قيمة مطلقة، فهو مطلوب من الراعي والرعية، ومطلوب مع الموافق والمخالف، والمحب والمبغض، قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8]. ومطلوب من الآباء مع أولادهم، والأزواج مع زوجاتهم، ومطلوب مع كل راع مع رعيته، وكل ولي مع من ولاه الله أمره، مهما عظمت هذه الولاية أو صغرت، فإقامة العدل في المجتمعات هو الحارس للعقيدة والمال والنفس والعرض، فالعدل خصب البلاد، وأمن العباد، به قامت السماوات والأرض، فإلى العدل يأوي الضعفاء، ويلوذ إليه الفقراء، وفي العدل إنصاف للمظلوم، ورزق للمحروم، وبه يجتمع الشمل، وتتحد الكلمة، وتدوم الرابطة، وتقوى الأواصر بين الناس، فمن بين قيم الإسلام الإنسانية السمحة، يقف العدلُ شامخاً مُعَبِّراً عن عظمة هذا الدين، ويُلْزِمُ الفرد والمجتمع بالتمسك به، بدءً من أولي الأمر، إلى آحاد الناس، كُلٍّ في مسئوليته، صَغُرَتْ أو كَبُرَتْ، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الْحَقُّ وَالْمِيزَانُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والعدلُ من أهم خصائص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمره الله به، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة:42]، وعلى هذا سار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى كان العدلُ عنوانَهُ، وقد صبر على تجرؤ البعض عليه في مواقف تختص بعدله السابغ صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (لمَّا كان يومُ حنينٍ، آثرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُناسًا في القِسْمَةِ، فأعطى الأقرعَ بنَ حابسٍ مائةً من الإبلِ، وأعطى عيينةَ مثلَ ذلك، وأعطى أُناسًا من أشرافِ العربِ، فآثرهم يومئذٍ في القِسْمَةِ، قال رجلٌ: واللهِ إنَّ هذهِ القِسْمَةُ ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجهُ اللهِ. فقلتُ: واللهِ لأُخبرَنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأتيتُهُ فأخبرتُهُ، فقال: فمن يَعْدِلْ إذا لم يعدلِ اللهُ ورسولُهُ، رحم اللهُ موسى، قد أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فصبرَ) (صحيح البخاري).
بل كان صلى الله عليه وسلم رمز العدل البشريِّ الكامِلِ، حتى فيما يتعلق بحياته الخاصة، ففي سنن ابن ماجه وغيره: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ «اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ». وقد أقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم موازين العدلِ في جميع أحكامه وشئونه، حتى لو خالف الناس، ولوْ على نفسِه، أو أحبِّ الناس إليه، ففي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» .ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
الدعاء