خطبة عن (الخليل إبراهيم) 1
يوليو 26, 2025خطبة عن (تحكيم شرع الله تعالى)
يوليو 29, 2025الخطبة الأولى (المَكْرُ والِخداعُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى ابن حبان في صحيحه: (عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار).
إخوة الإسلام
المكر: هو الاحتيال والخديعة، وإظهار خلاف ما يخفي، وحُكْم المكْر والخديعة: أن المذموم منه- وهو المكْر السَّيِّئ- هو مِن الكبائر، قال الرَّاغب: (المكْر: صرف الغير عمَّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مَكْرٌ محمودٌ، وذلك أن يُتَحرَّى بذلك فعلٌ جميل، كما يُفْعَل بالصَّبي إذا امتنع مِن تعلُّم خيرٍ، ومذموم، وهو أن يُتَحرَّى به فعلٌ قبيح، وهو أن يقصد فاعله إلى استجرار المخدوع والممكور به إلى مصلحة له)، وهو الذي قصده النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (المكر والخَدِيعَة في النَّار) فالمعنى: أنَّهما يؤدِّيان بقاصدهما إلى النَّار،
ومِن المكر المحمود: مَكْرُه تعالى بأهل المكر، مقابلةً لهم بفعلهم، وجزاءً لهم بجنس عملهم، قال تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30] وقال تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النَّمل:50]، فالمكر الذي وصف الله به نفسه على ما يليق بجلاله، معناه: مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة، وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه،
وقد جاء ذم (المكر والخداع) في الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123]، وقال تعالى: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر:43]، وجاء في الصحيحين: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَاسًا أَوْ رِجَالاً مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلاَمِ وَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِذَوْدٍ وَبِرَاعٍ وَأَمَرَهُمْ، أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ، كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِىَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، وَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ)، عن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه مرفوعًا: (ملعون من ضارَّ مؤمنًا أو مكَر به)، وروى ابن حبان في صحيحه: (قال صلى الله عليه وسلم: (مَن غَشَّنا فليس مِنَّا، والمَكْرُ والخِداعُ في النَّارِ)، قال المُناويُّ: «والمَكْرُ والِخداعُ في النَّارِ» أي: صاحِبُهما يستَحِقُّ دُخولَها؛ لأنَّ الدَّاعيَ إليه الحِرصُ على الدُّنيا والرَّغبةُ فيها، وذلك يَجُرُّ إليها، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ سَعْدًا – رضى الله عنه – قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «لاَ يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»، قال المُهَلَّبُ: (وقَولُه: (لا يَكيدُ أهلَ المدينةِ أحَدٌ)، أي: لا يدخُلُها بمَكيدةٍ، ولا يمكِنُ يَطلُبُ فيها غِرَّتَهم، ويَفتَرِسُ عَورتَهم. وقولُه: (إلَّا انماعَ)، أي: إلَّا ذاب كما يذوبُ المِلحُ في الماءِ)، وقال العَينيُّ: (الذي يَكيدُ أهلَ المدينةِ يُذيبُه اللَّهُ تعالى في النَّارِ ذَوْبَ الرَّصاصِ، ولا يَستَحِقُّ هذا ذاك العذابَ إلَّا عن ارتِكابِه إثمًا عظيمًا)
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا أنه مما يبغضه الله تعالى ويكرهه رسوله-صلَّى الله عليه وسلَّم- صفة المكر السيئ، فهو من صفات الأشرار، لا من صفات المؤمنين الأخيار، وكانت عاقبة أهله أن يحيط بهم جزاء مكرهم، ويرتد عليهم سوء تدبريهم، فينقد الله ما أبرموه، ويحبط الكيد الذي كادوه، ويبوؤن بالخزي والهزيمة، ويتجرعون غُصَص الحسرة والندامة، حين لا تنفع حسرة ولا ندامة، وقد قص علينا القرآن الكريم صورا من مكر السابقين، فعن مكر ثمود بنبيهم صالح، قال تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) “النمل:50-51”، وقد مكر المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أَو يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) “الأنفال:30” وقد أنجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وخرج سالماً من بين ظهرانيهم مهاجراً إلى المدينة، وقتل صناديدهم يوم بدر، وكذلك مكر المنافقون به صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُو يَبُورُ) “فاطر:10”، فاحذروا المكر ولا تنبهروا بأهله، فعن قيس بن سعد بن عبادة- رضى الله عنهما قال: لولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “المكر والخديعة في النار” لكنت من أمكر الناس)
ومن المؤكد أن هلكة الماكر والباغي والناكث قريبة، فالزمن جزء من العلاج، ولا يصح أن تهتز الثوابت والمعايير، قال محمد بن كعب القرظي: “ثلاث خصال من كن فيه كن عليه: المكر (ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ) “فاطر:43”، والبغي (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم) “يونس:23”. والنكث { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]. فهذه الخصال من أسباب دمار أهلها، والعلاقة وثيقة بين الأسباب والمسببات، والمقدمات ونتائجها، والحديث القدسي كما في صحيح مسلم ، (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»
أيها المسلمون
وصور المكر والخداع في حياتنا كثيرة ومتعددة، فمن ذلك: ما يفعله بعض الناس من الدخول بين المرء وزوجه عند الخصام، وفي ظاهره أنه يصلح بينهما، ولكنه في حقيقة الأمر أنه يفرق بينهما، وفي سنن أبي داود وغيره: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ». فبمكره يعمل على قطع حبل الوُدِّ بينهما، وتغيير قلب الزوجة على زوجها، بإغرائها بأن تطلب الطلاق من زوجها بدعوى أنه لا يصلح لها، وأن لها عليه إذا قَبِلت منه، وأجابته إلى ما أراد أن يُسارع إلى الزواج منها فور انتهاء عِدتها من زوجها، مع ما يعدها ويمنيها به من خفض عيش، وحياة مترفة مرفَّهة تنتظرها في كَنَفه، حتى إذا تمَّ له ما أراد، إذا به يكشف عن خبيئة نفسه، ويظهر حقيقة أمره، فما هو إلا طالب مال، وعبد دينار، ظَفِر بما سعى إليه، ثم لم يلتفت بعد ذلك إلى فضل أو حقوق أهله عليه، بل إنه يرد لها الجميل إمَّا بطلاقها، وإمَّا بإبقائها في عِصمته؛ لكن كالمعلَّقة،
وصور المكر والخداع في حياتنا: ما يقوم به بعض الناس من إيهام غيره بأنه يعمل في مشروعات، ويشارك في صفقات، طالبًا إليه المشاركة بماله، ليحظى بربحٍ مضمون، ومكاسب كبيرة، فإذا انجلى الغبار، وأسفر الصبح، تبيَّن أنها صفقات وهمية، لا يُعلَم ما وراءها، فيخدع الناس بمشروعاته الوهمية، ليستولي على أموالهم، وغفل فاعل ذلك عما جاء من وعيدٍ لمَن يصنع ذلك، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ»،
ومن صور المكر والخداع في حياتنا: ما يظهره الخاطب لخطيبته، أو الخطيبة لخاطبها، على خلاف الواقع، حتى إذا تم الزواج، تبين لكليهما أن الأمر على خلاف ما كان أيام الخطبة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (المَكْرُ والِخداعُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَقَدْ خَلَقْتُ خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبِرِ فَبِي حَلَفْتُ لأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا، فَبِي يَغْتَرُّونَ، أَمْ عَلَىَّ يَجْتَرِءُونَ»، وفي رواية له: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبِى يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَىَّ يَجْتَرِئُونَ فَبِي حَلَفْتُ لأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا»، فهذا الحديث يبين لنا صورة من صور المكر والخداع، واستخفاف عقول الناس، ويبين الحديث: أن عاقبة الماكرين أن يبتليهم الله بفتنه، جزاءً على أعمالهم الخبيثة. فقوله: (لَقَدْ خَلَقْتُ خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبِرِ)، فهذا القول كناية عن لينهم للناس ظاهراً، وإضمار السوء لهم باطناً، مكراً وخداعاً، فليس في قلوبهم محبة للعباد، إنما يحبون أنفسهم، ويخادعون الناس، بإظهار المودة والمحبة لهم، لأجل أغراضهم ومصلحتهم منهم.
فسواء أكان مكرهم بالناس لإضرارهم، أو كان مكرهم بهم من باب تظاهرهم بالدين، ليأكلوا به الدنيا، فهم من أهل النفاق، الذين قال الله تعالى فيهم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (4) المنافقون، فهم يسرقون دنيا الناس بالدين، فهم يتاجرون به، وكيف يرجى منهم خير؟ ،وهم يحملون في قلوبهم الغل والحقد للمسلمين ؟!، فلا يرجى الخير ممن لا يرجو الخير للمسلمين.
ومن وسائل النَّجاة مِن الكيد السيئ: الدعاء، كما قال يوسف – عليه السَّلام -: ” قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” [يوسف:33-34].
الدعاء