خطبة عن (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)
يونيو 18, 2025الخطبة الأولى (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (100) الاسراء.
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم، نتناول آية أو بعض آية، نتلوها، ونتدبر معانيها، ونتفهم مراميها، ونرتوي من نبعها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم،
فقوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي: أرزاقه التي وزعها على عباده، ونعمه التي أنعم بها عليهم، فما من شيء إلا وله خزائن، وخزائن كل شيء عند الله سبحانه وحده، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (21) الحجر، وقال تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (9) ص، فمن رحمته سبحانه أنه لم يجعل خزائنه بيده انسان، من طبعه الجحود والنكران، فلو كان بيد الانسان خزائن السماوات والارض لمنعها عن الناس، ولو كان بيده مفتاح الجنة، لما سمح لأحد بالدخول اليها، ولهذا قال الله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (100) الاسراء.
والكُفَّار لَمَّا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، وطَلَبوا منه إجراءَ الأنهارِ والعُيونِ في بلدَتِهم؛ لِتَكثُرَ أموالُهم، وتتَّسِعَ عليهم مَعيشَتُهم، فبَيَّنَ اللهُ تعالى لهم أنَّهم لو مَلَكوا خزائِنَ رَحمةِ اللهِ لَبَقُوا على بُخلِهم وشُحِّهم، ولَمَا أقدَموا على إيصالِ النَّفعِ إلى أحَدٍ، فلا فائدةَ في إسعافِهم بهذا المطلوبِ الذي التمَسوه.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا): فالإنسان بطبعه بخيل، ممسك عن الإنفاق فهو قتور، فلو أنَّ البشر ملكوا خزائن أملاك الله من مال وغيره، لبخلوا بها على عباد الله، ولكن الله تعالى هو الكريم الجواد، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ – وَقَالَ – أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ)، وفي رواية: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ». وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)، وقال ابن القيم :”فالله سبحانه غني حميد كريم رحيم, فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر, لا لجلب منفعة إليه سبحانه، ولا لدفع مضرة, بل رحمة وإحسانا وجودا محضا؛ فإنه رحيم لذاته، محسن لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته؛ كما أنه غني لذاته، قادر لذاته حي لذاته؛ فإحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك كما أن قدرته وغناه من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك، وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لحظوظهم”
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (100) الاسراء. ففي هذه الآية فوائد، ومنها: قطْعُ كلِّ عالقة بغير الله تعالى، وإذا انقطع تعلُّق العبد بالعبد مثله في كلِّ شيء وإن دقَّ، تعلَّق قلبه بالله تعالى وحده، واقتصر سؤاله على الله تعالى وحده، فيعطيه أو يَمْنعه لِحِكمة يراها – تعالى، فالله تعالى إذا منع فإنَّما يَمْنع لِحِكمة لصالح العبد الممنوع، قد يقف على أسرارها وقد لا يقف، فهو سبحانه لا يَمْنع بُخْلاً أو فقرًا، كما تقول اليهود – لعنَهم الله – وكما يَمْنع الناسُ الناسَ، بل يَمْنع تعالى لِمَصلحة العبد، فيكون منعه تعالى على تلك الصُّورة عيْنَ العطاء، قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (27) الشورى، وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (30) الاسراء
ومن فوائد هذه الآية: أن فيها تهذيب للنفس وتزكيتها: فإذا كانت صفة البخل والمَنْع قد جُبِل عليها الإنسان، فإنَّ المؤمن قد أُمر بضدِّها، أُمِر بالإنفاق والعطاء والبذل، ولا يتحقَّق هذا له إلاَّ بتهذيب نفسه، وتربِيَتِها على أوامر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمؤمن ينفق ويعطي؛ لأنَّ المال مال الله تعالى، وهو فقط مستخْلَف فيه؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد:7]. وفي صحيح البخاري: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ»، والمؤمن ينفق من ماله لأن الإيمان والبخل لا يجتمعان، فالمسلم القوى الإيمان يؤمن بأن الله هو الرزاق، ويؤمن بأن رزقه لن يصل إلى غيره، ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ». فليحذر المؤمن القتير والبخل والشح والامساك، ويحرص دائما أن يشكر الله شكرا من جنس النعمة التي أنعم الله بها عليه،
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا): فالبخل والاقتار مرض له أسباب، وله وقاية وعلاج، فمن أسباب التقتير والبخل: حب الدنيا وزينتها: فهذا من الأسباب المؤدية إلى الشُّح والتقتير ،حيث يتوهم من ابتلاه الله بحب الدنيا أن الانفاق ينقص ماله، وقد قال الله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (39) سبأ، وفي سنن الترمذي: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ». قَالَ «مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ)،
ومن أسباب التقتير والبخل: إهمال النفس من المجاهدة: فالمرء مجبول بفطرته على الشُّح، كما قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (6): (8) العاديات، وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (17): (20) الفجر، فالإنسان مجبول بفطرته على الشُّح، وقد يستسلم لهذا الذي فطر عليه، ولا يجاهد نفسه، فتكون العاقبة تمكن هذا الشُّح من نفسه بصورة يصعب معها العلاج.
ومن أسباب التقتير والبخل: عدم اليقين بما عند الله: وذلك أن من لم يصدق تصديقا لا يقبل الشك بحال أن الله يخلف على العبد أكثر مما يعطي هذا العبد، بل هو المانح ابتداء من غير حول من الخلق، ولا قوة ولا طول، من لم يصدق بذلك، يبخل ويصيبه الشح، وقد لفت رب العزة النظر إلى هذا السبب حين قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (8): (11) الليل،
ومن أسباب التقتير والبخل: الحقد: وذلك أن المرء إذا كان حاقدا على غيره، فإنه يسعى جاهدا ألا ينفعه بشيء أبدا، وهذا أمر ألمح إليه رب العزة، وهو يتحدث عن موقف الأنصار من المهاجرين فقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (9) الحشر، فالذي حمل الأنصار على التضحية، التي وصلت إلى حد الإيثار، إنما هو الإيمان النابع من سلامة الصدر من الأحقاد والذي أثمر المحبة والمودة والموالاة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما عن العلاج والوقاية من مرض البخل والتقتير: فمنها: الدعاء واللجوء إلى الله: وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله من البخل، ففي سنن أبي داود وغيره: (كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الْعُمْرِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ).
ومن سبل العلاج: اليقين بأنه ما تنفق من شيء إلا وهو يخلفه سبحانه: فالنظر إلى النعم التي أفاض الله علينا على أنها ليست ملكاً لنا حتى نمنعها عن عباده، وإنما هي ملك لله، ونحن أمناء أو خزنة فقط على هذه النعم، ومن واجب الأمين أو الخازن أن يتصدق وفق مراد صاحب النعمة، قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (7) الحديد،
ومن سبل علاج البخل والتقتير: مجاهدة النفس، وأخذها بالعزيمة، وحملها حملا على الكرم والعطاء، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (69) العنكبوت، وفي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ». أَوْ قَالَ «يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ».
الدعاء