خطبة عن (اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)
يونيو 30, 2025خطبة عن (مَعْذِرَة إِلَى رَبِّكُمْ)
يوليو 3, 2025الخطبة الأولى (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وس لم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) (57) (58) الأحزاب.
إخوة الإسلام
المتدبر لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (57) الأحزاب: يتبين له أن أشنع الأذى هو ما يقع في حق المولى تبارك وتعالى؛ ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». وفي رواية لمسلم: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ. فَلاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ. فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا». ففي الجاهلية كانوا يقولون: (يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا، فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله، فنهى عن ذلك). وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لَيْسَ أَحَدٌ – أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ – أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»، وفي الصحيحين: (أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنهما – يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ – صلى الله عليه وسلم»، وهكذا يتبين لنا أن سبُّ الله تعالى، والاعتراض على قدره, والتنقص لدينه, والاستهزاء بأوامره، كل ذلك هو أذى لله تعالى,
وأما قوله في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم) أي: يلحق بي الأذى؛ فالأذية لله ثابتة، ويجب علينا إثباتها؛ لأن الله أثبتها لنفسه، ولكنها ليست كأذية المخلوق؛ بدليل قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) {الشورى:11}. والأذى المذكور في حق الله تعالى لا يلزم منه الضرر، فإن الله جل وعلا لا يضره شيء في الأرض ولا في السماء، وقد قال تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِي)، ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (لا يلزم من الأذية الضرر; فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) {الأحزاب:57} ونفى عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:176]، وقال الإمام ابن القيم: (ليس أذاه سبحانه من جنس الأذى الحاصل للمخلوقين، كما أن سخطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين).
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) {الأحزاب:57}، وقوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (61) التوبة: فأذى الرسول صلى الله عليه وسلم- مِن أسوإ الأذى أيضا؛ فشتمُه –صلى الله عليه وسلم-, والقدحُ في عدالته, والتطاول على أهل بيته, واتهام زوجته, كل ذلك من الأذى، يبوء المرء بجرمه في الدنيا والآخرة, ففي الصحيحين في حديث الإفك الطويل: (.. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَرِيرَةَ فَقَالَ «يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ». فَقَالَتْ بَرِيرَةُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنِ الْعَجِينَ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ ابْنِ سَلُولَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا،.. »، وفي سنن الترمذي: (أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُغْضَبًا وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ «مَا أَغْضَبَكَ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا وَلِقُرَيْشٍ إِذَا تَلاَقَوْا بَيْنَهُمْ تَلاَقَوْا بِوُجُوهٍ مُبْشَرَةٍ وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ». ثُمَّ قَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ آذَى عَمِّي فَقَدْ آذَانِي فَإِنَّمَا عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ». وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا».
فما أعظم ذنب امرئ آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم, في نفسه أو أهله وآل بيته، ولينتظر العذاب من الله تعالى، إن لم يتدارك بالتوبة والاستغفار، وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة 65:66)، وقد حذر الله ـ عز وجل ـ تحذيرا شديدا من إيذاء رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأي صورة من صور الإيذاء، فقال تعالى مخاطبا المؤمنين: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} (الأحزاب:53)، بل نهى الله المؤمنين عن مجرد رفع أصواتهم فوق صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن رفع الصوت فيه إشعار بالاستخفاف، فجعله الله محبطا للعمل، وإن لم يشعر صاحبه بذلك، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الحجرات:2)، فكيف بمن يصرح بسبه أو الانتقاص منه؟،
والله تعالى تكفل بالانتقام لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكفايته ممن استهزأ به، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا .فَأَلْقُوهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ. فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ، وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا ،فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ)،
أيها المسلمون
والمتدبر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب:58). ففي الآية وعيدٌ عظيمٌ لمن آذى المؤمنين، فأذية المؤمنين والمؤمنات مِن أسوإ الأذى، ويكون ذلك بالقول أو بالفعال, أو يكون بهما جميعًا، ويكون أذىً حسياً، وربما أذىً معنوياً, وتتفاوت شناعته بحسب المؤذي وقوة الأذى، فالواجب الحذر من ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى إيذاء المؤمنين قرين إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك إشعارًا بخطورة هذا الإيذاء، وما يترَتَّب عليه من الإثم والعقاب، وإذا كانت أذية الذمي (غير المسلم ) منهياً عنها في شريعة الإسلام، فما الظن بأذية المسلم؟، ففي سنن أبي داود: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فأذية المسلم بأي شكل كانت، وبأي وسيلة تمت، هي من نزغات الشيطان، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ». فأذية المسلمين عظّم الله أمرها، ورتّب عليها العقوبة الشديدة، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الأحزاب:58
أيها المسلمون
ومن أعظم صور الأذى للمؤمن: قتله وسفك دمه, ودونه التعدي على بدنه بجرح ونحوه, وفي صحيح البخاري: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»،
ومن صور أذى المسلم: لعنه وتفسيقه وتكفيره، وأخذ ماله بغير طيب نفسٍ منه، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».
ومن صور أذى المسلم: أذيته بالغيبة والنميمة, والقدح في الأعراض، والله -تعالى- يقول: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15]. ولا يقف حدُّ الإيذاء عند الإيذاء المادي فحسب، بل يتعداه كذلك إلى الإيذاء المعنوي والنفسي؛ قال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:263]. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصًا على تنبيه المسلمين لرعاية مشاعر إخوانهم؛ فنهى عن انفراد شخصين بالحديث دون ثالثهما، فقال: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» رواه مسلم،
ومن صور أذية المسلم: التجسس عليه وتتبُّع عوراته؛ ففي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صور أذى المسلمين: التخلِّي في طرق الناس وأفنيتهم، وقضاء الحاجة في أماكن تنزُّههم وجلوسهم، وتنجيسها، وتقذيرها بالأنجاس والمهملات، ومن ذلك أيضًا تسريب مياه الصَّرف الصحي فيها، فيتأذَّى الناس بالرائحة، إضافةً إلى تنجيسهم، وتأذِّي الناس بذلك أعظمُ من تأذِّيهم بقضاء الحاجة في الطَّريق، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ». قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ». وفي معجم الطبراني: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ}
ومن صور الأذى: مضايقة المسلمين في طرقاتهم وأماكنهم العامة، ورمي النفايات فيها بلا مبالاة ولا احترام، ومن صور الأذى: تخطي الرقاب، وانبعاث الرائحة الكريهة، ففي سنن أبي داود: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ – وَقَالَ مَرَّةً مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ – فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».
ومن صور أذية المسلمين: خلط الحقائق وتلبيس الوقائع، وتسميم الثقافة والوعي، فكم يتأذى عموم الناس بما يعرض من مقروء ومشاهد مما يصادم الذوق العام كما يصادم الفضيلة والفطرة؟، فضلاً عن أصول الشريعة ومبادئها،
ومن صور الأذى: استغلال حاجة الناس وفقرهم، والتحايل على الربا الذي غطى بسحابته السوداء بلاد المسلمين، وضرب بأطنابه في تعاملاتهم ظلماً وعدواناً؛ حتى دخل على من لا يريده في عقر داره ولو أن يصله غباره، ابتداء من المصارف والبنوك، وانتهاء بتجار التقسيط، حتى تكاثرت الديون وتضاعف العِوَز،
ومن صور أذية المسلمين: الإيذاء العام في مجال المال والاقتصاد، والذي يمارسه بعض التجار وأصحاب المصالح من الاحتكار ورفع الأسعار، والتضييق على المسلمين في أرزاقهم ومعاشهم، حتى أعمى الجشع بصائرهم، وخدّر الطمع مشاعرهم.
أيها المسلمون
واعلموا أن من آذى مؤمنًا فقد توعده الله تعالى بالمحاربة: ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)، فمن منَّا يتحمل أن يحاربه الله تعالى؟، فاحذروا أذية المؤمنين والإساءة إلى الناس أجمعين، فإن أذية المؤمن ظلم، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فمن الأذى ما لا تكفِّره الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يُغفَر للظالم حتى يَغفِر له المظلوم، وهيهات أن يعفو المظلوم يوم تتطاير الصحف وتعز الحسنات؛ ويعظُمُ الإيذاء ويتضاعف الإثم وتشتد العقوبة؛ كلما عظُمت حرمة الشخص، أو الزمان، أو المكان، أو المناسبة، ولئن كان الاستهزاء بالناس أذية وبلية؛ فإن الاستهزاء بالصالحين والعُبَّاد والمحتسبين أشد إثماً، وأكثر خطراً، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، فويل لمن ظلم النساء، وويل لمن آذت زوجها؛ فإن الملائكة تلعنها.
كما أن تسلط الرؤساء بالأذى على مرؤوسيهم، وهضم حقوق العمال، وتأخير مصالح الناس في أي مجال هو داخل في الوعيد الشديد بقول العزيز المجيد: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) [الأحزاب:58].
الدعاء