خطبة عن (مَعْذِرَة إِلَى رَبِّكُمْ)
يوليو 3, 2025الخطبة الأولى ( لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا »
وفي رواية لأحمد وغيره : (عَنْ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَة َبْنَ شُعْبَةَ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ »
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الحديث النبوي ، والذي يحذرنا فيه رسل الله صلى الله عليه وسلم من سب الأموات ،كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ ) ، وذلك لأن أعراض المسلمين مصانة في الحياة وبعد الممات ،لعموم قوله – صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »
بل إن عرض الميت أولى بالحرمة والصيانة ، وذلك لعجزه عن الدفاع عن نفسه، فالله يدافع عنه،
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) ، أي ليس هناك أي مبرر لسبّهم، وإن أساءوا في حياتهم، لأنهم قد وصلوا إلى الجزاء العادل على أعمالهم ،إن كانت خيراً أو شراً، وانتهوا إلى أحكم الحاكمين، ولستم مسؤولين عن أعمالهم ،حتى تسبوهم بعد موتهم ، قال الله تعالى في محكم آياته :
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) البقرة 134، 141.
بل إن من المعلوم أن من آدب الإِسلام أن نشيد بمحاسن الميت، ونكف عن مساوئه، ففي الحديث (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :
« اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ ». أخرجه الترمذي وأبو داود.
ولكن في هذا التحذير من سب الأموات : فهل المراد بهم أموات المسلمين؟ ، أم يشمل حتى الكفار؟ ، وقد اختلف العلماء في هذا على أقوال:
القول الأول : أن هذا عام للمسلمين والكفار، لأنه قال الأموات ،و(ال) للاستغراق، ولأن معظم الأموات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الكفار.
والقول الثاني : أن المراد بالأموات في هذا الحديث أموات المسلمين ، وأن (ال) في قول الأموات للعهد ،وليس في الاستغراق، لقوله صلى الله عليه وسلم «فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا»، وهذا فيه إشعار بأنهم مسلمون.
والقول الثالث : أن هذا خاص بالمسلمين، ويشمل الكفار ، ولكن بشرط :
أن يكون في سب أموات الكفار فائدة، ولا يتأذى بذلك أقاربهم الأحياء، فيجوز سبهم، لقوله – صلى الله عليه وسلم – لما سبّ أحد الأنصار عبد المطلب:
(لاَ تَسُبُّوا مَوْتَانَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا » أخرجه النسائي
وهذا القول الثالث لعله يكون هو الأقرب للصواب ، والله أعلم،
أما أموات المسلمين فهذا ظاهر أنه لا يجوز سبهم، وأما أموات الكفار فالأصل أيضًا أنهم لا يسبون، لعموم الحديث، لكن إذا كان في سبهم فائدة من التحذير من الشرك والتحذير من مسلكهم، ولم يكن في ذلك أذية لأقاربهم الأحياء، فلا بأس في سبهم بهذه الحال.
وسب الأموات قد يدخل في الغيبة، إذا كان السب لميت مسلم، فإن هذا داخل في غيبته، وإذا كان لغير مسلم فيحرم ما تحرم فيه غيبة غير المسلم الحي، ويجوز فيه ما تجوز غيبة غير المسلم الحي،
أيها المسلمون
إنَّ هذه الشَّريعة الاسلامية قد صانت للمسلم عِرضَه ،وحَفِظَت له كرامته حيًّا وميتًا، وأحاطته بسياج منيع، من ولجه كان على خطر عظيم، بل زادت على ذلك الأَمرَ بالسَّتر عليه ، وإحسان الظَّنِّ به، فالمُتحَرِّي لدينه في اشتغاله بعيوب نفسه ما يُشغلُه عن نشر مَثالِب الأموات ، وسبِّ من لا يدري كيف حاله عند باري البريَّات.
ومن المؤسف والمحزن أننا نسمع أحيانا هذا الطَّعن واللَّمز، فيمن قد أفضى إلى ما قدم، كما أخبر بذلك الصَّادق المصدوق ﷺ ، ولا يعلم هؤلاء الجهلة ،أن حرمة المسلم حيا وميتا ،هي أعظم عند الله من حرمة الكعبة المشرفة ، فالله سبحانه وتعالى جعل حُرْمَةَ المسلم من أعظم الحُرُمَات، وأوجب صَوْنَها على المسلمين والمسلمات، وهذا ما فهمه السَّلف قبل الخلف،
فقد روى التِّرمذي : (قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ :
(مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ :
«كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» رواه مسلم
فهذه الحرمة مستصحبة حال الحياة والممات، فهي لازمة للمسلم في كلِّ حال وعلى كلِّ حال ، فقد روى البخاري من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسَرِف، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ:
«هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ ﷺ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلا تُزَعْزِعُوهَا وَلا تُزَلْزِلُوهَا وارْفُقُوا»
وفي شرح هذا الحديث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
«ويستفاد منه أنَّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته، وفيه حديث:
«كَسْرُ عَظْمِ الْمُؤْمِنِ مَيتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا»، أخرجه أبو داود وابن ماجه وصحَّحه
وفي قوله: «كَكَسْرِهِ حَيًّا» أي: في الإثم، كما جاء مصرَّحًا به عند الدَّارقطني في «سننه»
يؤكِّد هذا المعنى أيضا ما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع رضي الله عنه:
«مَنْ غَسَّلَ مُسْلِمًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ لَهُ اللهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً، وَمَنْ حَفَرَ لَهُ فَأَجَنه أجري عَلَيْهِ كَأَجْرِ مَسْكَنٍ أَسْكَنَهُ إِيَّاهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ كَفَنَهُ كَسَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سُنْدُس وَإِسْتَبْرَقِ الجَنَّةِ» ،
فأمر صلى الله عليه وسلم غاسله بالسَّتر عليه، وعدم التَّحدُّث بما قد يرى من مكروه عليه، وما ذاك إلاَّ مبالغة في صونه، وحفظ حرمته.
وبناءً على هذا الأصل ،جاءت نصوص الشَّرع بتحريم سبِّ المسلم على الإطلاق، ولم تفرِّق في النَّهي بين الأحياء والأموات، (فعن أبي جُرَيٍّ جابر بن سُلَيم… قَالَ قُلْتُ : اعْهَدْ إِلَىَّ. قَالَ :« لاَ تَسُبَنَّ أَحَدًا ». قَالَ : فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ بَعِيرًا وَلاَ شَاةً ) رواه البيهقي ،
كما شدَّدَت السنة المطهرة في الوعيد لمن اقترف ذلك، فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» متَّفق عليه
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ففي الحديث تعظيم حقِّ المسلم والحكم على من سبَّه بغير حقٍّ بالفسق »
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
(وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ » رواه أحمد وغيره
وفي سنن أبي داود (عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ لاَ تَقَعُوا فِيهِ ».
وفي سنن النسائي (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- هَالِكٌ بِسُوءٍ فَقَالَ :
« لاَ تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الفوائد المستنبطة ، والعبر المستخلصة من هذا الأدب النبوي الشريف :
أولا : أنَّ مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في أموات المسلمين: أنَّنا نرجو للمحسن أن يوفِّيه الله أجره، ولا يعذِّبه، ونخاف على المسيء بأن يؤخذ بذنوبه وإساءته، ولا نشهد لأحد بجنَّة ولا نار، إلاَّ لمن شهد له النَّبيُّ ﷺ ويحرم الظَّن بمسلم ظاهره العدالة، بخلاف من ظاهره الفسق، فلا حرج بسوء الظَّنِّ به
ثانيا : أنَّه لا يليق بالمسلم أن يكون سَبَّابًا للأحياء أو الأموات
ثالثا : حِرصُ الإسلام على إشاعة المودَّة والرِّفق بين المسلمين، وهذا أصل عظيم دلَّت عليه نصوص كثيرة.
رابعا : تعليل النَّهي بأذيَّة الحيِّ كما سبق لا يدلُّ على جواز السَّبِّ عند عدم تأذِّي الأحياء كمن لا قرابة له، أو كانوا ولكن لا يبلغهم ذلك، لأنَّ النَّهي عام ـ كما سبق ـ إلاَّ لمصلحة شرعيَّة
خامسا : أنَّ هذا الأمر يعظم ويتفاقم إن كان في وليٍّ من أولياء الله الصَّالحين أو عالم من علماء هذا الدِّين، خاصَّة إن كان من النَّاصرين للسُّنَّة الذَّابِّين عن حوزتها.
سادسا : على من بَدَر منه مثل ذلك، أن يسارع إلى الاستغفار لنفسه ولمن وَقَعَ فيه،
الدعاء