خطبة عن (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا)
أغسطس 10, 2025خطبة عن (تفويض الأمر لله)
أغسطس 12, 2025الخطبة الأولى (اصْبِرُوا وَاتَّقُوا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (186) آل عمران، وقال تعالى: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (25) النساء، وقال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (120) آل عمران، وقال تعالى: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (125) آل عمران.
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع آيات من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتفهم معانيها ومراميها، ونرتوي من نبعها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، مع قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا)، فبين الله سبحانه وتعالى أن الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأنهما سبب لرد كيد الأعداء، ونزول المدد من السماء، ولهذا، فعليكم أيها المؤمنون أن تصبروا على تكاليف الدين، وأن تصبروا على تحليل الحلال، وتحريم الحرام، وأن تصبروا على فعل المأمور، واجتناب المحظور، وأن تصبروا على قضاء الله وقدره، وعلى مشاق الطاعات، وما يصيبكم من الشدائد، وغير ذلك من التكاليف، قال الحسن البصري (رحمه الله): (أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا ضراء، ولا لشدة ولا رخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأمروا أن يصابروا الأعداء الذين يكيدون لدينهم).
فالمسلم إذا كان في حياته محتاجًا إلى التحلِّي بمحامد الأخلاق، وكريم الصِّفات؛ فإنَّ الصَّبْرَ والتقوى من أهم ما يحتاج إليه في جوانب حياته، ومجالاتها المختلفة، وذلك لأنه لا استقامة ولا كرامة، ولا إمامة ولا زعامة، ولا فوزَ ولا فلاح، إلاَّ بالتحلي بالصبر والتقوى؛ فهما وقوده وزاده، وقوته في الشدائد، فالصبر يَحتاجه المريضُ، ولا يستغني عنه المُبتلَى، ولولا الصبرُ لغرق المهموم في بُحور همومه، ولغشت المحزونَ سحائبُ غمومه، فطالب العلم بحاجة إلى الصَّبْر على كتبه ودُروسه، والدَّاعية مع مدعويه لا يشد عزمه مثل الصبر، ولن ترى أبًا في بيته، ولا مُعلمًا في مدرسته، ولا موَظفًا في مُؤسَّسته، ولا أمًّا ولا زوجة، ولا ربة بيت، ولا خادمًا، إلا وهم بحاجة إلى الصَّبر،
والصبر من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده المؤمنين، ففي الصحيحين: (قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ». وإنَّما كان الصبرُ من أعظم العطايا؛ لأنه يتعلَّق بجميع أمور العبد وكمالاته، فكل حالة من أحواله تحتاج إلى صَبْر، فيَحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حَتَّى يقوم بها ويُؤديها، وإلى صبرٍ عن معصية الله، حتى يتركها لله، وإلى صبر على أقدار الله المُؤلمة، فلا يتسخطها، بل إلى صبر على نعم الل،ه ومحبوبات النفس، فلا يدع النفسَ تَمرح وتفرح الفرحَ المذموم، بل يشتغل بشكر الله، فهو في كل أحواله يَحتاج إلى الصبر، وبالصبر ينال الفلاح؛
ولما كان الصبر بهذه المنزلة والمكانة من الدين، كان أجْره لا يقدر ولا يُحدَّد؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10]، وإذا وجد الصابرون في الصبر مرارة في الحلوق، وثقلاً على النفوس، أتت محبة الله – جلَّ وعلا – للصابرين، ومعيته لهم؛ لتُخفف عنهم وطأته، وتُهون عليهم صعوبته؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:146]، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]، وقال تعالى – في أهل الجنة: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [المؤمنون:111]، وقال سبحانه: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:23 – 24]، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الفرقان:75].
والصبر والتقوى هما خير علاج، وأنجع وسيلة لإبطال كيدِ الأعداء، وإخماد عداوتِهم؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران:120]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت:34-35].
كما وردت فضائلُ كثيرةٌ للصَّبر في السنة المطهرة، ففي “صحيح مسلم” قال صلى الله عليه وسلم: (وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)، وروى الامام أحمد في مسنده: قال صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»، وفي سنن ابن ماجه: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ».
وهكذا يظل الصبر للمسلم سراجًا في دروب الحياة، ونورًا في ظلمات الفِتَن، ورفيقًا في الغُربة، حتى إذا وصلتِ الفتنُ إلى مثل هذا العصر الذي نحن فيه؛ حيث تكالبتْ على المسلمين فتن الشبهات والشَّهوات، واجتمع عليهم مكرُ الأعداء وضعف الأولياء، فإنَّه لا علاج إلا تجرُّع الصبر مع إحسان العمل؛ ففي سنن ابن ماجه وصححه الألباني: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ وَرَأَيْتَ أَمْرًا لاَ يَدَانِ لَكَ بِهِ فَعَلَيْكَ خُوَيْصَّةَ نَفْسِكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ».
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (186) آل عمران، فبعد أن تعرفنا على الصبر ومنزلته وفضائله، فتعالوا نتعرف على (التقوى): فالتقوى تعني: أن يتقي المؤمن ربه بفعل المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور، (فاتقوا الله): تعني: أن تعملوا بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وأن تصبروا عن معصية الله، على نور من الله، خوفاً من عقاب الله، واتقوا الله: بأن تخافوا من الله عز وجل، وأن تعملوا بكتابه ،وأن تقنعوا بما رزقكم، وأن تستعدوا للقائه جل جلاله، وفي الصحيحين: (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ «اتَّقُوا النَّارَ». ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»،
وتقوى الله: أن يجعلَ العبد حاجزاً بينه وبين ما حرّم الله تعالى، وأن يتخذَ ما يقيه ممّا يخشى من غضب الله وسخطه، وبها يرتقي المسلم في مراتب اليقين، وقد وعد الله تعالى أن من اتقاه علمه، بأن يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل في قلبه ابتداء فرقاناً، أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29]. وقول الله تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282]،
فتقوى الله طريق النجاة، ودواء لكل داء، وزاد لكل سفر، وشفاء من كل مرض، ووقاية من كل خطر، وتقوى الله: تصحبك وأنت ذاهب لملاقاة ربك، فهي الأنيس في الوحشة، وهي الرفيق في الوحدة، وهي النور في الظلمة، وهي النجاة في الأزمة، وهي الفوز بالجنة، وهي النجاة من النار، وقد قال ابن مسعود (رضي الله عنه) في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]: “أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَر فلا يُنْسى، وأن يُشكَر فلا يُكفر”. والتقوى وصية الله ورسوله للأمة، ووصية الله للأوَّلين والآخرين، قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131]. والتقوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»
وتقوى الله خير زاد، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197]، والتقوى خير لباس، قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26]. والتقوى خير ميراث، قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63]. وتقوى الله خير تركة لأولادك من بعدك، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9].
وفي تقوى الله مخرج من كل كرب، ورزق عند كل فاقة، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2،3]. والتقوى تستجلب لك حب ربك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]. وتجعلك تصطحب معية الله وما أعظمها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وتجعل لك العاقبة، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وتجعل الجنة هي التي تبحث عنك، وتقترب منك، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]. فالتقوى وقاية، وسياج، وحاجز تحجز بينك وبين ما حرم الله عز وجل، وبالتقوى يستقيم الأمر عند المؤمن، في مظهره وجوهره، وفي سِرِّه وعلانيته، وفي حركاته وسكناته، وفي مرضه وصحَّته، وفي ضعفه وقوَّته، غنيًّا كان أو فقيرًا، حاكمًا كان أو محكومًا، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. وتقوى الله تجمع بين القلوب، وتساوي بين الرؤوس، وتؤلف بين الأرواح، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13) الحجرات، وفي مسند أحمد: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ»،
والتقوى تفتح الطريق لبركات السماء والأرض، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]. والتقوى لا تتقيَّد بمكان، ولا تتحدَّد بزمان؛ ولكن المحك الحقيقي لها في الخلوات، فالتقيُّ هو من يصرف بصره عن الحرام، ولو لم يره أحد، والتقيُّ من يتعفَّف عن أكل المحرمات، ولو لم يطَّلِع عليه أحد؛ لأنه يعلم علم اليقين أن الله يراه، وأن الله يراقبه، فتقوى الله حاضرة في ذهنه في كل حين، والتقوى موضعها القلب، وتظهر آثارها على الجوارح، بعمل الطاعات واجتناب المحرمات، فليُفتِّش كُلٌّ منا عن تقواه، وليزن نفسه بميزان التقوى، وعلى قدر تقواه، وخوفه من الله، وخشيته له، يكون جزاؤه، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54،55].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اصْبِرُوا وَاتَّقُوا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
واعلموا أنه من أخلاق المتقين: المسارعة إلى المغفرة والجنة، بالأعمال الصالحة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ومن أخلاق المتقين: الإنفاق في السراء والضراء، بالصدقة الطيبة، والمتقون كاظمون للغيظ، وعافون عن الناس، رغم أنهم يستطيعون أن يثأروا لأنفسهم، ولكنهم يعفون ويصفحون، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. ومن أخلاق المتقين: ذكر الله والتوبة النصوح، وسرعان ما يعرفون خطأهم، ويستغفرون من ذنوبهم، ويذكرون خالقهم ويعودون إلى رازقهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فكانت نتيجة هذه الأخلاق: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136].
والله سبحانه وتعالى إنما يتقبل من أهل التقوى، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. قال الامام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا من العمل، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} المائدة:27
والسؤال: كيف تكون تقيًّا؟، والجواب: أن تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نواهيه، وأن تأتمر بأمر رسول الله، وتنتهي عن نواهيه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]. وأن تتقي الله في نظرك، فلا تتبع عورات الناس، ولا تتابع النظرات الخائنة؛ لأن الذي خلقه لك، ووهبك إياه ومتعك به: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. والتقيُّ يغض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء كان ذلك في حياته، أو بعد وفاته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3]. وقال علي بن أبي طالب (رضى الله عنه): (التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).
الدعاء