خطبة عن (الاستعاذة بالله من فتن أربع)
أغسطس 4, 2025الخطبة الأولى (إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام البخاري في صحيحه: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ «إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ». ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا، فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُخْرَى، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ. وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمِ الطَّيْرَ ،ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ «أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ – ثَلاَثًا – إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ، وَإِنَّهُ كُلُّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ كُلَّمَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهْوَ كَالآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وفي رواية للإمام مسلم: (قَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقالَ: لا وَاللَّهِ، ما أَخْشَى علَيْكُم، أَيُّهَا النَّاسُ، إلَّا ما يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيَا فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأْتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: كيفَ قُلْتَ؟ قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأْتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ الخَيْرَ لا يَأْتي إلَّا بخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ، إنَّ كُلَّ ما يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخَضِرِ، أَكَلَتْ، حتَّى إذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، فَعَادَتْ فأكَلَتْ فمَن يَأْخُذْ مَالًا بحَقِّهِ يُبَارَكْ له فِيهِ، وَمَن يَأْخُذْ مَالًا بغيرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ، كَمَثَلِ الذي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ).
إخوة الإسلام
لقد شاءَت حكمة الله وقضاؤه أنْ يَجعَلَ الدُّنيا دارَ فتنة وابتِلاءٍ واختِبارٍ؛ فمِن النَّاسِ مَن يَغتَرُّ بزِينَتِها، ويَتَنافَسُ عليها، ومِنهم مَن يَعلَمُ حَقيقَتَها، فيَنزَوي عنها، ويَزهَدُ فيها، ويَرغَبُ في الآخِرةِ وما عِندَ اللهِ، فيَجعَلُ الدُّنيا وما فيها مِن المُتَع الزائِلة، وَسيلةً تُوَصِّلُه إلى نَعيمِ الآخِرةِ الباقي، وفي هذا الحَديثِ المتقدم يُحذِّرُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه مِن فِتَنِ الدُّنيا وشَهَواتِها، (فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرّ)، فأجابه صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الخَيرَ لا يَأتي إلَّا بخَيرٍ). والمَعنى: إنَّ الخَيرَ الحَقيقيَّ المَحضَ -كالإسلامِ- كُلُّه خَيرٌ، ولا يَأتي إلَّا بالخَيرِ، ولكِن هُناكَ أنواعًا مِنَ الخَيرِ قد تَأتي بالشَّرِّ، مِثلَ المالِ؛ فإنَّه خَيرٌ، ولكِنَّه قد يأتي بالشَّرّ،ِ إذا اكتَسَبَه المرء مِن مُحَرَّمٍ، أو أساءَ في إنفاقِه، ونَحوِ ذلك، وهذا الجَوابُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَتاعَ الدُّنيا، وبَرَكاتِ الأرضِ، ليسَتْ خَيرًا حَقيقيًّا خالِصًا؛ لِمَا فيها مِنَ الفِتنةِ، والإشغالِ عن كَمالِ الإقبالِ على اللهِ تعالَى في أغلَبِ الأحوالِ.
ثمَّ ضَرَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لذلك مَثَلًا لِمَن يَضُرُّه مَتاعُ الدُّنيا، فجَعَلَه كالدَّابَّةِ التي تَأكُلُ ما يَنبُتُ بجانِبِ الرَّبيعِ -وهو الفصْلُ المَشهورُ بالإنباتِ والزُّروعِ، وقيلَ: المُرادُ به هنا النَّهَرُ الصَّغيرُ-، فتَأكُلُ الماشيةُ ممَّا يُنبِتُه حتَّى يُصيبَها الحَبَطُ، وهو انتِفاخُ البَطْنِ مِن كَثرةِ الأكلِ، وهو داءٌ يُؤدِّي إلى المَوتِ، أو يُلِمُّ، أي: يُقرِّبُ مِنَ المَوتِ، وهذا مِثالُ الخَيرِ غَيرِ الخالِصِ الذي يَنقَلِبُ شَرًّا على صاحِبِه إذا أساءَ التَّعامُلَ معه.
ثمَّ بيَّنَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ النَّاجيَ مِن هذه الدَّوابِّ هو آكِلةُ الخَضِرِ فَقَطْ، أيِ: الدَّابَّةُ التي تَأكُلُ الخَضِرَ فَقَطْ، والخَضِرُ: هو اسمٌ لِمَا اخضَرَّ مِنَ الكَلَأِ الذي لم يَصفَرَّ؛ فإنَّ الماشيةَ تَرتَعُ منه شَيئًا فشَيئًا، حتَّى يَمتَلئَ خَصْرُها، أيْ: مَعِدَتُها، ويُصوِّرُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنظَرَها بعْدَ أنْ تَأكُلَ مِن هذا الخَيرِ، وتَهنَأَ به: حتَّى إذا امتَلَأتْ مَعِدَتُها شِبَعًا، وعَظُمَ جَنْباها، استَقبَلتِ الشَّمسَ، مُنتَفِعةً بدِفئِها، وجاءتْ وذَهَبتْ، ثمَّ ثَلَطَتْ وبالَتْ، أي: ألْقَتْ روثها رَقيقًا، فيَخرُجُ رَجيعُها عَفْوًا مِن غَيرِ مَشقَّةٍ، فيَبقى نَفْعُ ما أكَلَتْ، ويَخرُجُ فُضولُها، ولا تَتأذَّى بها، وهذا مِثالٌ لِلمُقتَصِدِ في جَمعِ المالِ، المُكتَسِبِ إيَّاه مِن حِلٍّ، والمُنفِقِ إيَّاه في الخَيرِ.
ثمَّ بَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا المالَ مَحبوبٌ ومَرغوبٌ فيه، تَرغَبُ فيه النَّفْسُ، وتَحرِصُ عليه بطَبيعَتِها، كما تُحِبُّ الفاكِهةَ أوِ النَّباتاتِ الخَضراءَ النَّضِرةَ، الشَّهْيَّةَ المَنظَرِ، الحُلوةَ المَذاقِ، ومَن أُعطِيَه، فأخْرَجَ منه زَكاةَ مالِه، على المِسكينِ واليَتيمِ وابنِ السَّبيلِ، فهو نِعْمَ الصَّاحِبُ الذي يَشهَدُ له يَومَ القيامةِ، وأمَّا مَن أخَذَه بغَيرِ حَقِّه فإنَّ اللهَ يَنزِعُ منه البَرَكةَ، ويَسلُبُ صاحِبَه القَناعةَ، فيُصبِحُ فَقيرَ النَّفْسِ دائِمًا، ولو أُعطِيَ كُنوزَ الأرضِ، وكان كالذي يَأكُلُ ولا يَشبَعُ، فهو كالمَلهوفِ الذي لا يَشبَعُ مِنَ الطَّعامِ مهْما أكَلَ منه؛ لأنَّه كلَّما نالَ منه شَيئًا ازدادَتْ رَغبَتُه، واستقَلَّ ما عِندَه، ونَظَرَ إلى ما فَوقَه، فيَظَلُّ مُتعَطِّشًا إليه، شَرِهًا في طَلَبِه ما بَقيَ حَيًّا، ويَأتي هذا المالُ شاهِدًا عليه يَومَ القيامةِ بحِرْصِه، وإسرافِه، وإنفاقِه فيما لا يُرضِي اللهَ عزَّ وجلَّ.
أيها المسلمون
وهكذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مثلين، مثلاً للمستكثر من المال، المانع له عن وجوه الخير، ومثلاً للمعتدل فيه، المنفق له في وجوه الخير، فالمسرف المستكثر من الدنيا، وهو لا يدري أن فيها عطبه وهلاكه، أشار إليه بقوله – صلى الله عليه وسلم – «إنَّ كُلَّ ما يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ» ، (فالماشية يروق لها نبت الربيع، فتكثر من أكلها، فربما تفتقت سمنًا، فهلكت بسبب التخمة، أو قاربت الهلاك)، وهكذا حال المستكثر من الدنيا، الحريص على جمعها من كل وجه، لا يقتصر في ذلك على الحلال، ولا على قدر الحاجة، ولا يصرفه في وجوهه التي أمر الله بها، تروقه زهرتها فتهلكه، فحاله في الحقيقة كحال المبطون المتخوم، الذي يكون حتفه وهلاكه فيما استحلاه واستلذه، وهذا من أبلغ الكلام في التحذير من الدنيا والركون إليها.
أما المقتصد الذي يأخذ من الدنيا حاجته ويفرق الباقي في وجوهه، وأشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله «إلَّا آكِلَةَ الخَضِرِ، أَكَلَتْ، حتَّى إذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، فَعَادَتْ فأكَلَتْ»، فالمال الحلال والكسب المرغوب فيه، سواء بالتحصيل، أو بالاعتدال في إنفاقه، واستخراج حقوق المجتمع منه، أو باستغلاله فيما يعود على الأمة بالخير، صوره رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة واقعية محسة بليغة، وذلك حينما ينبت الربيع كلًأ ومرعى خضرًا حلوًا، تأكل منه الماشية، وترعى فيه، فتزداد نموًا، وتربو الحما، فتنعم بالعافية، وتستقبل الشمس، متمتعة، بحلاوة الأكل، وجمال الطبيعة الساحرة، ودفء الشمس الواقي لها من المرض والعلل.
ثم استنتج الرسول صلى الله عليه وسلم من تلك الصورة المحسة البليغة مقدمات الحكم والنتيجة الدامغة، حين مدح المال ومصادر الخير فقال: “وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ”، موضحًا هذه النعم وتلك الخيرات، إذا أعطى منه للفقير حقه، وابن السبيل، ولكل ذي حق حقه، عند ذلك، لا يأتي الخير إلا بالخير، ثم يقرر حقيقة أخرى عندما يأتي الشر من الخير، إذا حصل عليه صاحبه من حقه، وينفقه في غير حقه، فيستخدمه في غير حله، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون وبالأعلى صاحبه، ويأتي عليه شاهدًا يوم القيامة، مصداقًا لقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} التكاثر (1)، (2)، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} العلق (6) ،(7)،
وقال (الطيبي): (يؤخذ من المثل أربعة أصناف: فمن أكل منه أكل مستلذ مفرط منهمك، حتى تنتفخ أضلاعه، ولا يقلع، يسرع إليه الهلاك، ومن أكل كذلك، لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء، بعد أن استحكم، غلبه فأهلكه، ومن أكل كذلك، لكنه بادر إلى إزالة ما يضره، وتحيل في دفعه، حتى انهضم، فسلم، ومن أكل غير مفرط، ولا منهمك، وإنما اقتصر على ما يسد جوعته، ويمسك رمقه، نجا، فالأول: مثال الكافر، والثاني: مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة، إلا عند فوتها، والثالث: مثال للمخلط، المبادر للتوبة، حيث تكون مقبولة، والرابع: مثال الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أهم ما يرشد إليه هذا الحديث الشريف: التحذير من فتنة المال، والنهي عن الكسب الحرام، والاستيلاء على المال بغير وجه حق، والحث على إنفاق المال الحلال، والكسب الطيب في حقه، وعلى من تجب نفقته، وما يجب عليه في ماله من حق السائل والمحروم، والنهي عن الإسراف في المال، وإنفاقه فيما ليس ضروريًا، مما يغضب الله عز وجل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} الفرقان:67، وقال تعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الاسراء (26)، (27).
كما يبين الحديث: أن المال فتنة وزينة واختبار، ولا ينجو صاحبه من بلائه وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة إلا إذا جمعه من حقه، وأنفقه في حقه ووجهه؛ والحديث فيه ذم المنافسة في حطام الدنيا وزهرتها، والافتتان بذلك، وأن هذا أمر يخشاه النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته،
وفي الحديث: دلالة على حرص الصحابة على طلب العلم والبيان فيه، والسؤال عما أشكل عليهم، وتعارض عندهم، ومن ذلك قول الرجل: (أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ)،
وفي الحديث حسن تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه، وثناؤه لمن سأله واستشكله، وهكذا ينبغي للمعلم حينما يسأله أحد طلابه سؤال ينم عن حرصٍ، وجودة في طرح السؤال، ليلفت انتباه السائل ومن حوله، ويشجعه على تحريك ذهنه، حين تلقِّي العلم.
وفي الحديث: تقريب النبي – صلى الله عليه وسلم – الجواب بضرب مثالين للمفرط والمقتصد، والحث على إعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل، وصرف المال في وجوه الخير،
وفيه بيان: أن من أخذ المال بغير حق، فربما ألهته الدنيا وحطامُها عن الإقبال على الآخرة، فأضاع حق الله تعالى في ذلك، وربما أخذ المال الحرام فتعامل بالربا أو الرشوة، أو أكل مال اليتيم، وغيرها من المكاسب المحرمة، ولن يشبع من ذلك لأنه مفتون، فكان كالذي يأكل ولا يشبع، وهذا المال يكون عليه شهيدًا يوم القيامة،
كما يبين الحديث: أن المال مستحسن تطلبه النفوس، وتميل إليه، والواجب ضبط النفس، وحملها على سنن الشرع، فلا يأخذ المال إلا من حله، ولا ينفقه إلا في محله، ففي ذلك السلامة والنجاة، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ – رضي الله عنه – قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»،
وفي الحديث: أن التمادي في جمع المال، دون نظر فيما يحل ويحرم، دليل على الجهل، وضعف البصيرة، قال ابن القيم: «ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً، والثانية أن يكون عالماً بذلك وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره وهواه عقله، فالأول من ضعف علمه والثاني من ضعف عقله وبصيرته».
الدعاء