خطبة عن (الفرق بين الفلاح والنجاح) مختصرة
سبتمبر 24, 2025خطبة عن (النُّفُوسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) مختصرة
سبتمبر 25, 2025الخطبة الأولى (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) (9): (14) العلق،
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع آية من كتاب الله، نتلوها، ونتدبر معانيها، ونتفهم مراميها، ونرتوي من نبعها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، مع قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14]، فهذه الآية هي آيَةٌ عَظِيمَةٌ، فِي أَوَّلِ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى- فهي تَضْبِطُ النَّوَازِعَ، وَتُقَوِّي الْوَازِعَ، وَتَكْبَحُ الْجِمَاحَ، وَتَدْعُو إِلَى إِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَكَمَالِ الْمُرَاقَبَةِ؛ وفيها أيضا بيانٌ بأن الله تعالى يعلم كلَّ صغيرة وكبيرة, فلا تخفى عليه خافية, وهو سبحانه الذي مَنَحَ الإنسانَ البصر, فكيف يغفل عن مراقبة الديَّان، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7]؛ وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. أَيْ: يَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِهِ، فَيُجَازِيهِ بِهَا، فَكَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى مَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ – هنا – لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ
والمتدبر لقوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14]، فنحن أمام تعجب شديد من تعجبات القرآن، التي تزلزل القلوب، وتقهر المتكبرين المستعلين المعاندين، فحين يستشعر المؤمن أن الله يراه ويرعاه، ويمنحه الصحة والمال، فإنه يشعر بالضعف أمام مالك هذا الكون، الذي يحيط بعلمه كل شيء، وحينها ينتابه الشعور بالخضوع والانكسار أمام عظمة الكبير المتعال فالآية تربي المؤمن على الشعور بأن الله يراقب أفعاله وأقواله، وأنه المدبر لكل شيء، وهو المتحكم في كل شيء، والقادر على كل شيء، فالله عليك رقيب، وهو منك قريب، ويفعل بك ما يريد، فاخش على نفسك الدوائر، واعلم أن الموت إليك سائر، فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان، واعلم أن ربك رحيم رحمن، فالمراقبة حارسٌ قويٌّ يمنع الإنسانَ من التفكير في الجرائم والشرور، والتقصير في أداء الحقوق والواجبات، ويدفعه الى الاعمال الصالحة.
أيها المسلمون
وإذا تفكرت في قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14]، فكيف علمت أن الله يراك، ثم لا تخافه ولا تخشاه، وتستحي من الناس، ولا تستحي من الله؟، قال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) الاحزاب:37، فالله عز وجل بيده شؤونك، بيده صحتك ومرضك، وبيده غناك وفقرك، وبيده سعادتك وشقاؤك، وبيده أن يرفعك ويخفضك، ويعزك ويذلك، فإذا كان الأمر كذلك، فكن لله طائعا، وعلى سنة رسوله سائرا، قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربك، يُوشِكُ أن تَبلُغَ، فقال الرجل: إنا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: هل تعرف تفسير ما تقول: قال: لا، قال: أنت لله عبد، وإليه راجع، فمن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوفٌ، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلةُ؟ قال يسيرة، قال ما هي؟ قال: تُحسِنُ فيما بقي، يُغفرُ لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ فيما بقي، أُخذتَ بما مضى وبما بقي.. وقال مالك بن دينار: دخلت على جارٍ لي وهو في الغمرات، يعاني عظيمَ السَّكَراتِ، يُغمى عليه مرَّةً، ويفيقُ أخرى، وفي قلبه لهيبُ الزَّفرات، وكان منهمكاً في دنياه، متخلِّفاً عن طاعة مولاه، فقلت له: يا أخي تُبْ إلى الله، وارجع عن غِيِّكَ، عسى المولى أن يشفِيكَ مِنْ ألَمِكَ، ويعافيك مِنْ مرضِك وسقمِك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك. فقال: هيهات هيهات! قد دنا ما هُو آت، وأنا ميتٌ لا محالةَ، فيا أسفي على عمرٍ أفنيته في البطالة. أردتُ أن أتوبَ ممَّا جنيتُ. قال: فسمعت هاتفاً يهتف من زاوية البيت: عاهدناك مِراراً، فوجدناك غدَّاراً.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾: ففي هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَهْدِيدٌ للطَّاغِي، الذي كَانَ يَنْهَى العَبْدَ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ في ظَاهِرِهِ خِطَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ العُلَمَاءُ: العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَهُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ جَبَّارٍ يُحَارِبُ دِينَ اللهِ تعالى، وَيَنْهَى العِبَادَ عَنِ الالْتِزَامِ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَاللهُ تعالى يَعْلَمُ حَالَ النَّاهِي وَالمَنْهِيِّ، وَسَوْفَ يُجَازِي كُلَّاً مِنْهُمَا بِمَا يَسْتَحِقُّ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتعالى يَرَى كُلَّ شَيْءٍ، مَهْمَا خَفِيَ وَدَقَّ، وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، مَهْمَا بَعُدَ أَو قَرُبَ، وَمَهْمَا كَثُرَ أَو قَلَّ، فَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى يَرَى النَّمْلَة السَّوْدَاءَ، في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَاءِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ آل عمران: (5)،
وقَوْلُهُ تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾ لَهُ مَعْنَيَانِ: المَعْنَى الأَوَّلُ: العِلْمُ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ (6)، (7) المعارج. فَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ العِلْمِ، لِأَنَّ اليَوْمَ لَيْسَ جِسْمَاً يُرَى. والمَعْنَى الثًّانِي: رُؤْيَةُ المُبْصَرَاتِ، يَعْنِي إِدْرَاكَهَا بِالبَصَرِ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ (46) طه. وَهُنَا في (سُورَةِ العَلَقِ) هِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى العِلْمِ، وَبِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ. وهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ في الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، فَهِيَ تَجْعَلُهُ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، وَيَسْتَشْعِرُ مُرَاقَبَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِنَّا شَرْعَاً، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ الحشر:18.
وهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَجْعَلُ المُؤْمِنَ يُدَقِّقُ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى لَا يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُوَ مِنَ الذينَ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (103)، (104) الكهف، وحَتَّى لَا يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامَاً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضَاً، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورَاً». قَالَ ثَوْبَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا» رواه ابن ماجه.
وهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَجْعَلُ العَبْدَ المُؤْمِنَ يُرَاقِبُ اللهَ تعالى في خَلَوَاتِهِ وَجَلَوَاتِهِ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْدَفَاً بِهَذِهِ الأَجْهِزَةِ أَجْهِزَةِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَمِنْ خِلَالِ المَوَاقِعِ الإِبَاحِيَّةِ وَالقَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ الفَاسِدَةِ وَالمُفْسِدَةِ.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾: فهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُدْخِلُ العَبْدَ المُؤْمِنَ في مَقَامِ العُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، وفي مَقَامِ المُرَاقَبَةِ؛ وَمَنْ دَخَلَ مَقَامَ المُرَاقَبَةِ للهِ تعالى لَا يَجْتَرِئُ عَلَى فِعْلِ المَعْصِيَةِ عَامِدَاً. وهذه المراقبة هي التي تجسَّدت في رد ابنة بائعةِ اللبن على أمها حين أمرتْها بخلط اللبن بالماء قائلة: “واللَّهِ ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء، إن كان عمرُ لا يرانا، فرَبُّ أمير المؤمنين يرانا”. وورد أن بعضهم راودَ أعرابية وقال لها: “ما يرانا إلا الكواكب”، قالت: “أين مُكوكبُها؟”. وجاء في كتاب جامع العلوم والحكم: “قال أبو الجاد: أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء: قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي، وتُظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني لا أراكم، فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم، فلِمَ تجعلوني أهون الناظرين إليكم؟”.
أيها المسلمون
فلنتدبر قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾، ولنعمل بما فيها، فالله تعالى إليه المُنتهى، وسيحاسبُنا على النقير والقطمير.. أَمَا آن لنا أن نُحسن عبادتنا لله تعالى؟، أَمَا آن لنا أن نراقب الله تعالى في كلِّ أمورنا؟، أَمَا آن للعاصي أن يرجعَ ويتوب؟، أَمَا آن للعاقِّ أن يبرَّ والديه؟، أَمَا آن لقاطعِ رَحِمه أن يصلها؟، أَمَا آن لآكلِ مال اليتيم والأرملة والمسكين أن يُحسِن إليهم؟، أَمَا آن للمُسيء إلى جيرانه وإلى عباد الله أن يُحسِن إليهم؟، أَمَا آن للمُرابي، والمرتشي، وشاهدِ الزور، والساعي في الفساد أن يستفيقَ قبل فوات الأوان؟، أَمَا آن للظالم أن يعود إلى رُشده، ويرجع عن غيِّه؟، أَمَا آن للمعتدي أن يتوقَّف عن اعتدائه؟، أَمَا آن لنا أن نكفَّ الظالم عن ظلمه، والمعتدي عن اعتدائه؛ حتى تتوقف الآهات، وتلتئم الجراح، ويجتمع الشتات، ويُبدد الظلام؛ وحتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله؟.
الدعاء