خطبة عن (أحوال الفتن وسبل النجاة)
أبريل 27, 2025الخطبة الأولى (أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِلاَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ كَانَ يَقُولُ: «.. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا». وفي رواية للترمذي في سننه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ».
إخوة الإسلام
كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ تَعليمًا وتَربيةً لأصحابه، وكان يُربِّي أُمَّتَه على التَّوجُّهِ إلى اللهِ بالدُّعاءِ، ويُعلِّمُها ما تقولُ في دُعائِها، فالدعاء أساس العبادة، وسر قوتها، وروح قوامها؛ فالداعي إنما يدعو الله تعالى وهو مؤمن أنه لا يجلب الخير إلا الله، ولا يدفع الضر إلا الله جل وعلا، وهذه هي حقيقة التوحيد والإخلاص، فالله تعالى يحب أن يُسأل، ويُرغبَ إليه في كل شيء، ويغضب على من لم يسأله، ويستدعي من عباده سؤاله، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (60) غافر.
وفي هذا الحديث الذي بين أيدينا اليوم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى بأربع: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ».
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي الفصاحةَ والبيانَ، وجوامِعَ الكَلِمِ؛ فكان في دُعائه يأتي بالمعاني العَظيمةِ في ألفاظٍ يسيرةٍ، ولكنَّها معبِّرةٌ وجامعةٌ، تشمَلُ الموعظةَ والتَّعليمَ لأمَّتِه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ): أي: اللهم ألجَأُ إليك، وأستجيرُ بك، من شرِّ أربعةِ أمورٍ: أولها: (مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ): أي: قلب لا يسكن ولا يطمئن بذكر الله، فأعوذُ بك مِن القلبِ القاسي، الَّذي لا يتَأثَّرُ بالموعظة، ولا يخشع بتلاوة القرآن، ولا يخشع في الصلاة، ولا يكون حاضرا في الدعاء، فهو لا يَذِلُّ ولا يخضع للهِ، ولا يَنقادُ لأُمورِ الشَّرعِ والطَّاعاتِ، فأعذني يا رب من هذا القلب، الذي لا يخشع لذكرك وموعظتك، ولا تؤثّر فيه النصيحة، لأن ذلك من علامات القلب القاسي، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الزمر:22.
واستعاذة العبد (مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ): تتضمن أنه يسأل الله تعالى قلبا خاشعا، وقد وصَفَ الله المؤمنين بالخشوع في أشرف عباداتهم وهي الصلاة، وبيَّن أن الخشوعَ طريقُ الفلاح في الدنيا والآخرة؛ يحُسُّه المؤمن بقلبه، ويجد مصداقه في واقع حياته، وعدٌ من الله بالفلاح الذي لا يخطر على قلب بَشَر، كما وصف الله عز وجل الذين أوتوا العلم بالخشوع حين يسمعون كلامه؛ فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الإسراء:107-109)، والخشوع طريقٌ إلى أعالي الفردوس: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (هود:23)، وقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} المؤمنون:10،11.
ومن مواطن خشوع القلب: الخشوع في الصلاة، والعبد واقف بين يدي ربه، فهو روح الصلاة، فإذا فقد من الصلاة كانت مجرد حركات لا حياة فيها، وقد ربط الله تعالى فلاح المؤمنين بخشوعهم في صلاتهم، فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) {المؤمنون:1/2}، فإذا خَشَعَ القَلبُ، تَبِعَه خشوعُ الجوارح؛ لأنَّها تابعةٌ له؛ وفي صحيح مسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم (إِذَا رَكَعَ قَالَ «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي»، والخشوعُ في الصلاة إنما يحصُل لِمَن فَرَّغَ قلبَه لها، واشتَغَل بها عمَّا عَدَاها، وآثرَها على غيرها، وحينئذٍ تكون له قُرَّةَ عيْن؛ وفي سنن النسائي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «حُبِّبَ إِلَىَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ »
وعدم خشوع القلب في الصلاة هو أول ما يرفع من العلوم، ففي مسند أحمد: (عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ «هَذَا أَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يُرْفَعَ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ أَيُرْفَعُ الْعِلْمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ وَقَدْ عَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ». ثُمَّ ذَكَرَ ضَلاَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَعِنْدَهُمَا مَا عِنْدَهُمَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَقِىَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ بِالْمُصَلَّى فَحَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ صَدَقَ عَوْفٌ. ثُمَّ قَالَ وَهَلْ تَدْرِى مَا رَفْعُ الْعِلْمِ قَالَ قُلْتُ لاَ أَدْرِي. قَالَ ذَهَابُ أَوْعِيَتِهِ. قَالَ وَهَلْ تَدْرِي أَيُّ الْعِلْمِ أَوَّلُ أَنْ يُرْفَعَ قَالَ قُلْتُ لاَ أَدْرِي. قَالَ الْخُشُوعُ حَتَّى لاَ تَكَادَ تَرَى خِاشَعاً). وقال ابن القيم رحمه الله: “صلاةٌ بلا خشوعٍ ولا حضورٍ؛ كبَدَنٍ ميِّتٍ لا رُوحَ فيهِ، أفلا يَسْتَحْيِي العَبْدُ أنْ يُهديَ إلى مخلوقٍ مثلِه عبدًا ميِّتًا، أو جاريةً ميتة؟ فما ظنُّ هذا العبد أن تَقَعَ تلك الهَديَّةُ مِمَّن قَصَدَهُ بها مِن مَلِكٍ، أو أميرٍ، أو غيرِه)، وفي سنن أبي داود: (عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا». وفي الصحيحين: (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ».
أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ): أي: وأعوذُ بك مِن أن أدعُوك، ولا تَستَجيبَ لي دُعائي، فإِذا لَم يُقْبَلْ دُعاءُ الشّخْصِ، دَلَّ عَلَى أَنَّه مُحْرُومٌ، وأَنَّه وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِن مَوانِعِ اسْتِجابَةِ الدُّعاءِ ،كَأَكْلِ الحَرامِ، أَو اسْتِعْجالِ اسْتِجابَةِ الدعاءِ، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»، أو كَأَنْ يَدْعُوَ وَقَلْبُهُ غافِلٌ لاهٍ، أَوْ يَدْعُوَ بِإِثْمٍ أَو قَطِيعَةٍ، ومن لم يستجب اللَّه دعاءه فقد خاب وخسر؛ لأنه طُرد من الباب الذي لا يُستجلب الخير إلا منه، ولا يُستدفَع الضرُّ إلا منه؛ لأن اللَّه تعالى كريم سميع قريب، مجيبٌ للدعاء، فمن حُرم ذلك فقد حُرم الخير كله،
والعبد المؤمن إذا كان يستعيذ بالله من (دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ)، فهو بذلك يسأل الله تعالى دعاء مسموعا ومستجابا، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». وفي مسند أحمد: (قال صلى الله عليه وسلم: ثلاَثٌ مُسْتَجَابٌ لَهُمْ دَعْوَتُهُمْ الْمُسَافِرُ وَالْوَالِدُ وَالْمَظْلُومُ). وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».
وهناك عدة شروط للدعاء ليكون مُستجابا، ومنها: الإخلاص لله تعالى، وأن يبدأ دعاءه بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ويختم بذلك، والجزم في الدعاء، واليقين بالإجابة ، والإلحاح في الدعاء، وعدم الاستعجال، مع حضور القلب في الدعاء، وعدم الدعاء على الأهل والمال والولد والنفس، وخفض الصوت، فيكون بين المخافتة والجهر، وتحري أوقات الإجابة، والمبادرة لاغتنام الأحوال والأماكن التي هي من مظان إجابة الدعاء ،وعدم تكلف السجع في الدعاء، والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة، وكثرة الأعمال الصالحة فإنها سبب عظيم في إجابة الدعاء. وكذا الدعاء بالأدعية المأثورة من القرآن والسنة المطهرة، قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (201)، (202) البقرة، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (74) الفرقان، وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ». وفي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ». وفي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو يَقُولُ «رَبِّ أَعِنِّي وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلاَ تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلاَ تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي»، وفي سنن أبي داود وغيره: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ مَا خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ».
أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ): أي، وأعوذُ بِكَ مِن نَفْسٍ لا تَقْنَعُ بِرِزْقِ اللهِ وعَطائِه، ولا تَشْبَعُ مِنْ التَنافُسِ على المَلَذّاتِ، وحُطامِ الدنيا الفانِي، ولا تَشْبَعُ مِن كَثْرَةِ الطعامِ وأَصْنافِهِ وأَلْوانِهِ وتَفَنُّناتِه، ولِأَنَّ النَّفْسَ التي لا تَشْبَعُ لا تَخْشَع، وهي بِعُرْضَةٍ إلى أَكْلِ الحَرَام، بِسَبَبِ عَدَمِ القناعَةِ، ولأنَّ النَّفْسَ إذا كانت لا تَشْبَعُ، يَضِيعُ مِيزانُ الحُبِّ والبُغْضِ عِنْدَها.
والعبد المؤمن إذا كان يستعيذ بالله (مِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ)، فهو بذلك يسأل الله تعالى نفسا قانعة تقية رضية، لا فاجرة ولا عصية، فقناعة النفس رتبة عالية، ومنزلة جليلة، وهي مع الإيمان عنوان الفلاح، وسبيل النجاة، ففي صحيح مسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ». وفي الصحيحين :(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ». فما أحوجنا إلى القناعة، وما أحوجنا إلى الرضا بما قسم الله لنا، في زمن تكالب فيه كثير من الناس على الدنيا، وانغمسوا في شهواتها، وفي سنن الترمذي: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ) أي، أَعِذْنِي واعْصِمْنِي يا رب مِن عِلْمٍ لا يُصْلِحُ قَلْبِي وَعَمَلِي، ولا أَسْتَعِينُ بِهِ على طاعَتِك، ولا أَزْدادُ بِهِ رِفْعَةً وخَشْيَةً، ولا يُهَذِبُ أَخْلاقِي، لأنّ المَقْصُودَ مِن العِلْمِ العَمَلُ بِهِ، وإصْلاحُ النَّفْسِ، ودَعْوَةُ الناسِ إليه، وأَنْ يَكُونَ صاحِبُهُ قُدْوَةً صالحةً، والعَبْد قَدْ يَجْمَعُ العِلْمَ النافِعَ، ولكنَّه لا يَنْتَفِعُ بِه، بِسَبَبِ عَدَمِ الإخلاصِ، أو عَدَمِ تَطبيقِ العِلْمِ على النَّفْسِ أَوَّلاً، وكَذلك قَدْ يَجْمَعُ الإنسانُ العِلْمَ الكَثيرَ في أَنواعِ الثقافاتِ، لكِنَّها مِن سَفاسِفِ العِلْمِ، وحُثالَةِ الأفكارِ، كما هي حالُ أهْلِ البِدَعِ، أو أَهْلِ الأهواءِ المُخالِفين لِلكِتابِ والسُّنَّةِ، مِمَّن يَسْعَونَ لِنَشْرِ الباطِلِ، وما يُخالِفُ تَعالِيمَ الإسلامِ.
والعبد المؤمن إذا كان يستعيذ بالله (مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)، فهو بذلك يسأل الله تعالى علما نافعا ومفيدا، وفي سنن ابن ماجه وغيره: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً». وقوله: (علماً نافعاً) فيه دلالةٌ على أن العلم نوعان: علمٌ نافع، وعلم ليس بنافع، بل قد يكون ضارا، كما في سنن ابن ماجه: (عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ». وقال الحسن البصري رحمه اللَّه: (العلم علمان، علم باللسان، وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة اللَّه على ابن آدم)، فالعلم النافع هو ما باشر القلب، فأوجب له السكينة والخشوع، والإخبات للَّه تعالى، وهو الذي يُهذِّب الأخلاق الباطنة، فيسري إلى الأعمال الظاهرة، فيصلح الظاهر، والباطن، والعلم النافع هو العلم بالشريعة الذي يفيد المكلف ما يجب عليه من أمور دينه في عباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، وسلوكه.
وأفضل العلوم النافعة في الوجود، وأولاها: العلم باللَّه جلّ شأنه، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
وفي بعض الروايات: خَتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الدُّعاءَ في الحديث المتقدم بِالتَّأْكِيدِ عَلَى هذِهِ الأُمُورِ الأَرْبَعَةِ، والاستِعاذَةِ مِنها، فقال: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ)، وذلك لِيَعْلَمَ المُؤمِنُ أَهَمِّيَّتَها، وَوُجُوبَ الخَوفِ مِنْها، وبَذْلَ أَسبابِ السلامَةِ مِنْها، فإِنَّ وُجُودَها سَبَبُ فسادِ أَحْوالِ العَبِدِ، بل وأَحْوالِ العالَمِ كُلِّه، لأنَّ وُجُودَها يَعْنِي: قَسْوَةَ القُلُوبِ، وكَثْرَةَ الجَهْلِ، وانتشارَ الباطِل، وغِيابَ القُدْوَةِ، والتنافُسَ على الدُّنيا، وعَدَمَ استجابَةِ دُعاءِ الدَّاعِي.
الدعاء